قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}.
بدأت السورة الكريمة بداية جاذبة للانتباه ، وذلك بتصدر اسم الموصول " الذين " أولى آياتها ، إذ يحيل اسم الموصول ذاتيا إلى سابق ، وهو ما يوجد قدراً من مفاجأة المتلقي ، فاسم الموصول يحرك في النفس ما يشبه التساؤل عن كنه المقصود منه ، والإجابة عن هذا التساؤل تكون منوطة – كما ذكرنا– بحركة تراجعية يتحرى فيها ما يقيم ارتباطاً بهذا الاسم ، ولما كان الاسم الموصول في الآية هو أول ما بدأت به ، فإن المتلقي يشرع في التحرك حركة عكسية ليتأمل التالي لاسم الموصول من مكونات التركيب متتبعا العلاقات التركيبية الجامعة .
ويترتب على ذلك أن تصبح المفردتان " الذين كفروا " أشبه ما يكونان بكيان دلالي واحد ، يصبح ذا قدرة على أن يكون مركزاً لانتباه المتلقين واهتمامهم من لدن بدء السورة ، وسنرى أن كثيراً من آيات السورة – التي صدرتها هذه الآية – قد عنى بتفصيل القول في أمر هؤلاء الكافرين .
واستلفات انتباه المتلقي إلى الذين كفروا ليكون مركزاً دلالياً لا ينبع من استخدام اسم الموصول على هذا النحو غير المألوف وحسب ، بل إن ثمة امتداداً في التركيب ترتب عليه تأخير الخبر ، الخبر الذي ينعقد به التركيب ويصبح لـ " الذين كفروا " بفضله دلالة واضحة محددة ، مما يزيد حدة التساؤل التي يثيرها اسم الموصول في نفوسِ المتلقين ، فبعد أن بحثوا عن المتعلق به لتحديد المقصود منه ، هاهم يبحثون عن المعنى الذي يفيده ؛ فالمتلقون لا يعرفون هذا المعنى إلا حين يصلون {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ} إلى ختام الآية : - فإضلال الأعمال التي هي للذين كفروا هو الحكم الذي عنيت الآية " أَعْمَالَهُمْ " بإقراره ، ولا يصل المتلقي إليه إلا بعد أن يمر بالصد عن سبيل الله مرورًا متأملا – بفضل البحث عما تنعقد به إفادة التركيب- وهكذا نجد أن المتلقي يتحرك وشبه الجملة التي " وَصَدُّوا " عبر مدى تركيبي متسع يشمل الجملة المعطوفة " اللَّهِْ" عَن دخل الاسم المجرور فيه في تركيب إضافي"سَبِيلِ" ولعلنا لسنا بحاجة إلى التأكيد أنا لا نتحدث عن المفردات والألفاظ بل عن المعاني والدلالات ، إن حركة المتلقين هنا تؤول إلى تأمل في سبيل الله : طبيعته ومعالمه ، وإلى تأمل في الصد : وسائله ومظاهره ، حتى إذا كان وصولهم إلى "أضل أعمالهم" فهموا هذا الإضلال بوصفه نتيجة مترتبة على هذا الصد ، نتيجة لا تفهم إلا على هدى المقارنة بين "سبيل الله" من ناحية ، و"الصد" من ناحية أخرى . لقد زاوجت الآية بين الكفر بوصفه موقفًا عقديا فكريا ، والصد عن سبيل الله بوصفه تحركًا عمليا فعليا ، مع وضعهما في إطار يجمعه إضلال الأعمال ، وتلح طبيعة التراكيب على حصر هذه الدلالات في نطاق الكافرين ؛ بدءًا باسم الموصول الذي تعزى إليه فرادة التركيب مرورًا بالضمير الذي تحيل حركته التراجعية إليهم ؛ " واو " الجماعة كفروا ، صدوا ، و "هم " في أعمالهم ، وهو ما ضمن تنويعًا في صور الإحالة إلى هؤلاء الكفار ، وهو ما أدى إلى بقاء وعي المتلقين وتواصلهم . في أكثر الحالات رفاهة وتجاوبًا رغم قلة عدد المفردات التي تتكون منها الآية .
إن دور المتلقي هنا يتجاوز تتبع العلاقات الجامعة بين المفردات في التركيب ، ورصد حركة المعنى ، والوقوف على أبعاد الدلالة إن دور المتلقي بتجاوز ذلك كله – وهو كثير - إلى مرحلة يشعر معها أن عليه أن يؤدي دورًا إيجابياً فاعلاً في تمثل الدلالة وبلورة ما لم تنص عليه ألفاظ الآية صراحة ، وهو ما دفعنا إلى القول إن تواصل المتلقين مع الآية - وهي آية البدء - كان في أكثر الحالات رفاهة وتجاوبًا .
ذلك أن الصد عن سبيل الله دلالة عامة تحتمل وجوها كثيرة تتجلى فيها ، ويبقى تمثل هذه الوجوه من المهام الموكولة إلى المتلقين ، وينضاف إلى ذلك أيضا تحديد من وقع عليه الصد ؛ إذ قد حذف المفعول به للفعل صدوا ، إذ كان طي المفعول به هنا في هذا السياق إبرازٌ له ، إذا أظهرته الآية وكأن لا حاجة إلى ذكره ، وفي هذا الحذف إعلاء من شأن المحذوف من ناحية ، وإشارة خفية إلى العموم من ناحية أخرى ، وكأن الكافرين تفجؤهم وتفجعهم كثرة المقبلين على المضى في سبيل الله ، وقد يتجه العموم وجهة أخرى فيؤول إلى تعدد الوسائل التي يتحراها الكافرون . وكثرتها في المنع عن سبيل الله ومن أوجه حفز ملكات التلقي أن شهدت الآية كثافة تصويرية عرض فيها المعنى عرضا - غير مباشر ؛ إذ سيق في إطار تصويري ؛ فقد شهدت الآية على قلة عدد مفرداتها التي كانت ذات قدرة على الإيحاء بالمضي. و "سبيل الله " استعارة تصريحية في السلوك والسير؛ مما يحفز همم المتلقين أن يقبلوا عليه ويجتازوه ، ويصاحب ذلك شعور عميق بالاستهجان لمسلك الكافرين الصادين ؛ إذ قد كان صدهم أمارة على اضطراب السلوك وتخبط الوعي . وقد وردت هذه الاستعارة التصريحية في قالب التركيب الإضافي الذي جاء فيه " سبيل " - وهو الركيزة الأساسية في الاستعارة وجوهر المعنى- مضافًا إلى الله سبحانه ، - مما يقر يقينًا لدى المتلقين بعظم شأن هذا السبيل ، ويوجد بشكل مواز .دلالة ملازمة مساوية وهي فداحة جرم المشركين عدول عن التعبير المباشر عن المعنى إلى التعبير " صدوا " وفي التعبير الكنائي غير المباشر عنه ، ويشي " الصد " بنشاط إيجابي فاعل ، وتصميم نفسي ماض ، بما يؤكد تعمق الكفر والإعراض في نفوس أولئك الصادين ، وما استكن فيها من حقد أصيل على الدين ونفور استحال إلى تنفير من اعتناق وقد ذهب جهد الكافرين المبذول سدى ؛ وعبّر عن هذا المعنى عبر الاستعارة المكنية " أضل أعمالهم " ، إذ اكتسبت الأعمال بعدًا دلاليا مغايرا عبر استقرارها في قالب الاستعارة ، والملحوظ أن الضمير المتصل في أعمالهم قد أسهم في إفادة دلالة القصر والحصر، فهذا الإضلال محصورٌ في سعيهم وحده ، مقصورٌ على أعمالهم دون غيرها .
أما مجيء " أعمال " جمعاً فقد أفاد فداحة العاقبة ، فالإضلال قد أصاب الأعمال الكثيرة" صدوا " التي قام بها الكفار ، ويستفاد من كثرتها ما استخلصه المتلقون من دلالة إذا كان للكافرين أعمال كثيرة في الكيد للدين والصد عنه وقد كان لاطراد الأفعال الماضية أثر دلالي دعم صوغ الآية في قالب الأسلوب الخبري ؛ إذ اكتسبت الدلالات الجزئية التي تضمنتها الآية بداهة وتقريرا ؛ فقد ثبت في حقهم الكفر والصد عن السبيل فكان من المنطقي أن يتأكد لذلك إضلال الأعمال .
وللبناء الصوتي في الآية الكريمة خصوصية لافتة ، فختام الآية بضمير جمع الغائبين المتصل من غير المعهود والمألوف من الفواصل القرآنية ، وجاء ختام هذه الآية - تنبيها للآذان لهذه الفاصلة النادرة التي سترد مطردة أو يرد ما يشبهها في السورة وتلتقي هذه الفاصلة الفريدة مع البناء التركيبي غير المألوف الذي جاءت الآية عليه ؛ لتدعم قدرة البدء على جذب انتباه السامعين ، وهم يتأملون كنه الصلة بين هذه الفرادة التي تلوح في النسق الصوتي والسمت التركيبي من ناحية ، والدلالة المسوقة الآيات كلها – على مستوى السورة- لبيانها إذ قد يرد في الأذهان أن لهذه الفرادة صدى في الدلالة ؛ ليكون لهذه الدلالة قدر مواز من الفرادة وينضاف إلى طبيعة البناء الصوتي في الآية ما يحدثه جرس بعض الأصوات فيها من أثر يمكن أن نحدده على ضوء الدلالة الذاتية والمحاكاة ، فللصاد والضاد وقع غليظ على الآذان بفضل القيمة التفخيمية لهما ، مما يتفق مع دلالة الصد عن السبيل ، ودلالة إضلال الأعمال وجاء توزيع الحركات الطويلة وطبيعة تكررها وتواليها متفقا مع جزئيات المعنى ومكوناته فيمكن أن يلتمس المتلقون ثنائية دلالية تلوح في الآية ؛ جاء طرفها الأول جامعا بين الكفر وما تبلور فيه من صد ، وجاء طرفها الآخر كاشفاً عن جزاء ذلك ، وقد انبثت واو المد مكررة وياء المد في الطرف الأول ، بينما انحصر حظ الطرف الآخر " الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا " على حرف مد وحيد ، هو الألف وقد أتاح تفوق حروف المد في " عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ " الطرف الأول بطئًا في الأداء الصوتي من شأنه أن يهب الأذهان مجالا لمزيد من التأمل في الصد عن السبيل وعلته ، أما العاقبة ففيها حسم وسرعة حاكاها خلو الفعل أضل من حروف المد ، أما طبيعة الأعمال وكثرتها فأمر محل تفكير وتأمل تحفزه ألف المد في " أعمالهم " . وما من مرة يصغي فيها المرء إلى هذه الآية دون أن يشعر أن ختامها - رغم اكتمال معناها- يكاد يستدعي تتمة لها وهو ما يبلور درجة مرهفة من تواصل المتلقين مع النص .
براعة الاستهلال في سورة محمد - قراءة في جماليات البيان القرآني
پدیدآورطارق سعد شلبی
تاریخ انتشار1388/11/21
390 بازدید
براعة الاستهلال في سورة محمد - قراءة في جماليات البيان القرآني
الدكتور طارق سعد شلبي